دراسة مقلقة: الجزيئات البلاستيكية وصلت لـ دم الإنسان وتمر عبر الأوردة! لأول مرة .. العثور على جزيئات بلاستيكية دقيقة في دم الإنسان..
د. طارق قابيل*
مقدمة
عثر علماء هولنديون، لأول مرة، على جزيئات بلاستيك دقيقة (لدائن دقيقة يقل قطرها عن 5 مم) في عينات دم بشرية، للمرة الأولى على الإطلاق، ما يشير إلى إمكانية انتقال هذه الجزيئات إلى الأعضاء البشرية، وهو الأمر الذي أثار قلقا ومخاوف كبيرة بشأن آثارها الصحية على المدى الطويل.
وفي إطار الدراسة التي أجريت بتمويل من “الهيئة الوطنية الهولندية للأبحاث الصحية والتنمية والبحار المشتركة” وأوردت نتائجها الدورية العلمية “إنفيرومنت إنترناشونال”، اكتشف الباحثون وجود جزيئات بلاستيكية دقيقة في عينات دماء 17 من بين 22 شخصا شاركوا في التجربة.
وشملت الدراسة خمسة أنواع شائعة من الجزيئات البلاستيكية من بينها البوليثيلين تيرافثاليت الذي يدخل في صناعة الزجاجات البلاستيكية، ومادة البوليثيلين، التي تدخل في مجال تعبئة المواد الغذائية. وتؤكد هذه الدراسة فرضية أن تعرض الإنسان لـ الجزيئات البلاستيكية الدقيقة يؤدي إلى امتصاصها في مجرى الدم، ولكن هناك ضرورة لمزيد من الدراسات لتحديد تأثير التعرض لهذه المادة، وما إذا كانت تنطوي على خطورة صحية.
أمر مقلق وبالغ الأهمية
يتم إنتاج أكثر من 300 مليون طن من البلاستيك كل عام، وينتهي الحال بـ14مليون طن في مياه البحار والمحيطات، حيث تتسرب هذه المواد إلى أجسام الكائنات البحرية، ما ينذر بدخولها في دورة الغذاء البشرية، بحسب الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة.
خلال القرن الماضي، وصل الإنتاج العالمي من البلاستيك إلى 320 مليون طن سنويا، ويستخدم أكثر من 40% كعبوات أحادية الاستخدام، وبالتالي يساهم بشكل كبير في مستويات النفايات البلاستيكية. وتشير التقديرات إلى أنه منذ الخمسينيات من القرن الماضي، تم إغراق أكثر من 70 مليون طن من اللدائن الدقيقة في المحيطات بسبب عمليات التصنيع.
وتوجد جزيئات البلاستيك الدقيقة على نطاق واسع في البيئة، ويمكن رصدها في الكائنات البحرية ومياه الشرب والتربة وغيرها، وعلى الرغم من أن مستويات الجزئيات البلاستيكية في الدم كانت منخفضة، حيث بلغت في المتوسط 1.6 ميكروغرام (1.6 جزء من مليون غرام) في كل مليلتر من الدم.
لكن العلماء يقولون إن مجرد وجود الجزيئات البلاستيكية في مجرى الدم “أمر مقلق وبالغ الأهمية”، مشددين على الحاجة لمزيد من الدراسات لتحديد آثارها على صحة الإنسان. وتقول منظمة الصحة العالمية: إنه لا توجد معلومات كافية لاستخلاص نتائج بشأن مدى خطورة هذه المواد على صحة البشر.
تفاصيل الدراسة: الجزيئات البلاستيكية وصلت لـ دم الإنسان وتمر عبر الأوردة
قام علماء من جامعة فريجي أمستردام والمركز الطبي بجامعة أمستردام الهولندية بأخذ عينات من دم الإنسان من 22 متبرعا بالغا سليما، وقاموا بتحليلها بحثا عن الجزيئات البلاستيكية الصغيرة، ووجد الباحثون أن 17 من أصل 22 متطوعا (77.2%) لديهم جزيئات بلاستيكية دقيقة في دمائهم. وعثر على اللدائن الدقيقة في المخ والأمعاء ومشيمة الأطفال الذين لم يولدوا بعد وبراز البالغين والرضع.
واختُبرت الدراسة، التي نُشرت في مجلة البيئة الدولية، خمسة أنواع من البلاستيك – بولي ميثيل ميثاكريلات (PMMA)، والبولي بروبيلين (PP)، والبوليسترين (PS)، والبولي إيثيلين (PE)، والبولي إيثيلين تيريفثالات (PET).
وجد الباحثون أن 50% من عينات الدم تحتوي على البولي إيثيلين تيريفثاليت (PET) وكان هذا أكثر أنواع البلاستيك انتشارا في العينات. واحتوت دماء ما يزيد قليلا عن الثلث (36%) من العينات على البوليسترين، المستخدم في التعبئة والتغليف والتخزين، بينما احتوى ما يقرب من ربع (23%) على البولي إيثيلين، الذي تُصنع منه أكياس بلاستيكية.
لم يجد الباحثون عينات دم بها بولي بروبيلين
وجد البولي ميثيل ميثاكريلات لدى شخص واحد فقط (5%) ، ولم يجد الباحثون عينات دم بها بولي بروبيلين، ووجد الباحثون ما يصل إلى ثلاثة أنواع مختلفة من البلاستيك في عينة دم واحدة.
ويرى الباحثون أن الاختلافات قد تكون بين من كان لديهم جزيئات بلاستيكية في دمائهم والذين لم يكن لديهم، بسبب التعرض للبلاستيك قبل أخذ عينات الدم مباشرة، على سبيل المثال، قد يكون أحد المتطوعين الذين ثبتت إصابتهم باللدائن الدقيقة في دمهم شرب مؤخرا من فنجان قهوة مبطن بالبلاستيك.
الآثار الصحية غير واضحة
أكثر أنواع الجزيئات البلاستيكية انتشاراً في العينات البولي إيثيلين تيريفثاليت (PET) عبارة عن بلاستيك شفاف وقوي وخفيف الوزن يستخدم على نطاق واسع لتعبئة الأطعمة والمشروبات، وخاصة المشروبات الغازية والعصائر والمياه.
والآثار الصحية لتناول الجزيئات البلاستيكية غير واضحة حاليا، على الرغم من أن دراسة أجريت العام الماضي زعمت أنها يمكن أن تسبب موت الخلايا وردود الفعل التحسسية لدى البشر. ووفقا لدراسة أخرى أجريت عام 2021، يمكن أن تسبب اللدائن الدقيقة التهابا معويا واضطرابات ميكروبيوم الأمعاء ومشاكل أخرى في الحيوانات، وقد تسبب مرض التهاب الأمعاء لدى البشر.
ووجدت دراسة أخرى نُشرت العام الماضي 2021 أن اللدائن الدقيقة يمكن أن تشوه أغشية الخلايا البشرية وتؤثر على عملها. وشدد العلماء على ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث حول ضررها المحتمل، ودورها داخل أجسادنا، وهل يتم نقلها إلى أعضاء معينة، وهل هذه المستويات عالية بما يكفي لتحفيز المرض؟
اكتشاف “مقلق للغاية”
قال ديك فيتاك، معد الدراسة، والأستاذ في جامعة فريجي بأمستردام في هولندا، لصحيفة الغارديان: “دراستنا هي أول مؤشر على وجود جزيئات بوليمر في دمائنا – إنها نتيجة مذهلة. ولكن علينا توسيع نطاق البحث وزيادة أحجام العينات، وعدد البوليمرات التي تم تقييمها، وما إلى ذلك”. ويقول العلماء أنهم بحاجة ماسة إلى تمويل المزيد من الأبحاث حتى يتمكنوا من معرفة ذلك.
من جهتها، قالت الدكتورة أليس هورتون، التي تدرس “الملوثات البشرية” في المركز الوطني لعلوم المحيطات في المملكة المتحدة: “هذا اكتشاف مثير للقلق، على اعتبار أن جزيئات بهذا الحجم وهذه الكمية، أثبتت في المختبر أنها تسبب التهابا وتلفا للخلايا.. عواقب هذا الأمر لم تعرف بعد”.
وقال الدكتور فاي كوسيرو، باحث أول في جامعة بورتسموث، أنه في المحاولات السابقة لقياس اللدائن الدقيقة في الدم كان من المحتمل أن هناك تلوث للعينات من خلال البلاستيك في الهواء أو من المعدات، ولكن: “الورقة هي في الواقع منهجية لإظهار أنه من الممكن تحديد البلاستيك في الدم، وكيفية القيام بذلك”.
دراسة جديدة للغاية
ألقى هذا البحث نظرة جادة على هذه المشكلة وتناولها بعدة طرق، من خلال أخذ عدد كبير من العينات الفارغة وتضمين بيانات الاسترداد. أما القيود المفروضة فهي أنها مجرد عينة من 22 شخص ولا توجد بيانات حول مستويات التعرض التي قد يكون لدى هؤلاء الأفراد.
ووصفتها الدكتورة أليس هورتون، الخبيرة في الملوثات في المركز الوطني لعلوم المحيطات والتي لم تشارك أيضا في الدراسة، بأنها “دراسة جديدة للغاية”.
وقالت هورتون: “على الرغم من انخفاض أعداد العينات والتركيزات المنخفضة التي تم اكتشافها، إلا أن الطرق التحليلية المستخدمة قوية للغاية، وبالتالي فإن هذه البيانات تشير بشكل لا لبس فيه إلى وجود جزيئات بلاستيكية و/أو نانو في عينات الدم”.
نتائج تثير التساؤلات!
وقال جو رويل الرئيس التنفيذي لشركة “كومن سيز” (Common Seas) ، وهي مجموعة ضغط تعمل على اتباع سياسة جديدة لمعالجة التلوث البلاستيكي (الجزيئات البلاستيكية): “هذه النتيجة مقلقة للغاية. نحن بالفعل نأكل ونشرب ونستنشق البلاستيك. إنه في أعمق خندق بحري وعلى قمة جبل إيفرست. ومع ذلك، من المقرر أن يتضاعف إنتاج البلاستيك بحلول عام 2040”.
من المعروف أيضا أن اللدائن الدقيقة تتسلل إلى الطعام الذي نتناوله (بما في ذلك المأكولات البحرية الطازجة) ومصادر المياه والهواء وحتى في الثلج. ويجعلنا شرب القهوة أو الشاي في أكواب ورقية نبتلع 25 ألف جزيء من المواد البلاستيكية الدقيقة.
وداخل الخلايا البشرية، يتم التعامل مع الجزيئات البلاستيكية الدقيقة كأجسام غريبة من قبل الكائن الحي المضيف ويمكن أن يؤدي ذلك إلى استجابات مناعية محلية.
خاتمة
وقال الباحثون إن اللدائن الدقيقة يمكن أن تعمل أيضا كحامل لمواد كيميائية أخرى، بما في ذلك الملوثات البيئية والإضافات البلاستيكية (الجزيئات البلاستيكية)، والتي قد يتم إطلاقها والمعروفة بآثارها الضارة. وهذا الاكتشاف الجديد مثير للقلق بالنظر إلى أن جزيئات من هذا الحجم ثبت في المختبر أنها تسبب التهابا وتلفا للخلايا في ظل ظروف تجريبية.
***
مصادر
Discovery and quantification of plastic particle pollution in human blood
***
* كاتب المقال: د. طارق قابيل
أكاديمي، كاتب، ومترجم، ومحرر علمي
– متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية
– عضو هيئة التدريس – قسم النبات والميكروبيولوجي – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– زميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا (ASRT Fellow) وعضو لجنة الثقافة والمعرفة بالمجالس العلمية المتخصصة، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو لجنة دعم البحوث الأساسية Science Up بمكتب التقييم الفني والمتابعة وتقييم الأداء التابع لرئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا.
– عضو اللجنة العلمية بمركز التراث العلمي، جامعة القاهرة.
البريد الإلكتروني: tkapiel@sci.cu.edu.eg
صفحة الكاتب على موقع جامعة القاهرة: http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
طالع أيضاً: قد يكون هناك مليار نوع من الكائنات الحية الدقيقة على الأرض